تعريب دراسة العلوم: مقدمات حاضرة غائبة

طباعة 2024-04-05
تعريب دراسة العلوم: مقدمات حاضرة غائبة

تمهيد

يحكي الفيزيائي الشهير ريتشارد فاينمان[1] في مذكراته الماتعة عن واقعة طريفة جرت له حين كان يدرّس في البرازيل مطلع خمسينيات القرن الماضي. دُعي فاينمان إلى إلقاء محاضرة في الأكاديمية البرازيلية للعلوم عن عمله في كهروديناميكا الكم. كانت معرفة فاينمان بالبرتغالية محدودة، لكنه قرر إلقاء محاضرته بالبرتغالية، واستعان في إعدادها باثنين من طلابه، بدأ في كتابة محاضرته ببرتغالية بالغة السوء - على حد وصفه، وكتبها بنفسه لأنه إذا كتبها طالباه فستعج بالكلمات التي لا يعرفها ولا يحسن نطقها. فكتبها وترك لهما إصلاح النحو وتحرير بعض الكلمات على أن تظل بلغة يستطيع قراءتها ومعرفة ما يقوله، وتدرب معهما ليجيد النطق بحيث لا يلتبس المعنى على السامعين حين يتكلم. وفي اجتماع الأكاديمية فوجئ بأن المتحدث الأول - وكان برازيليًا - يلقي محاضرته بالإنجليزية، ولم يفهم فاينمان سبب إلقائه المحاضرة بالإنجليزية، ولاسيما وقد كان نطق المحاضر سيئًا جدًا فلم يفهمه جيدًا، وتكرر الأمر مع المحاضر الثاني! أتى دور فاينمان فاعتذر بأنه لم يكن يعلم أن اللغة الرسمية في الأكاديمية البرازيلية هي الإنجليزية، وأنه أعد محاضرته وسيلقيها بالبرتغالية، فقرأ محاضرته، وسعد الحضور جميعًا بها. ثم قام المحاضر التالي وقال إنه سيقتدي بزميله الأمريكي وسيلقي محاضرته بالبرتغالية! يذكر فاينمان أنه لقي رجلًا من البرازيل بعدها بسنوات وأعاد عليه هذا الرجل الجمل الأولى من محاضرته تلك بالحرف[2].

رأى فاينمان أن الطبيعي أن تكون محاضرة الفيزياء في البرازيل بالبرتغالية، بل وذكر قبلها أنه فكر أن تكون محاضراته للطلبة بالإنجليزية، لكنه وجد أنه لم يكن يفهم جيدًا حين يشرح له طلبته شيئًا بالبرتغالية رغم معرفته بشيء منها، لكنه يفهم منهم إذا تكلموا بإنجليزيتهم الركيكة، فاستحسن أن تكون محاضراته لهم بالبرتغالية رغم مستواه الضعيف فيها.

هذه ملاحظة تسترعي الانتباه، فهي من وجهة نظر أستاذ كبير في دولة أجنبية، يقصده الطلاب للاستفادة منه وليس العكس. ولا أملك إلا أن أقارن بين هذا الموقف والتصور، وما مررنا به - معشر الأطباء - وقت الدراسة، ولاسيما في سني الدراسة الأولى، بل ونمر به في كل مؤتمر أو محاضرة حتى بعد التخصص. فلطالما سمعنا مقولات تُقرر - تقريرَ الحقائق التي لا نزاع فيها - وجوب الدراسة بالإنجليزية، لأنها لغة العلم في هذا العصر، وحتى نواكب التقدم المتضاعف بوتيرة مهولة يوميًا، وما إلى ذلك من حجج سنتطرق إليها بالتفصيل فيما يلي. والسؤال الملح هنا، ما مدى وجاهة رأي فاينمان، من حيث ما هو أستاذ شغوف بالتدريس، ومن حيث ما هو من أساطين العلم في القرن المنصرم، في مسألة تفضيل تدريس العلوم بلسان الطالب. وفي هذا المقال أود استعراض مسألة لغة تدريس العلوم في البلاد العربية - وخصوصًا الطب باعتبار تجربتي الشخصية - ودواعي تدريسها بالعربية وما يُشكل عليها وأوجه الاعتراض ومدى وجاهتها.

 

تقرير الواقع وتوصيف الإشكال

بداية ينبغي بيان أن موضوع المقال هنا، هو تدريس العلوم الطبيعية والتجريبية، مثل الطب والهندسة، في الجامعات العربية باللغة العربية، وهي الخطوة الأولى قبل الكلام في مسألة كتابة ونشر الأبحاث بها، إلى غير ذلك من مكونات العملية العلمية والتعليمية. عند شروعي في كتابة المقال، طلبت من جمع من الأصدقاء إيراد كل حجة معارضة لتعريب تدريس العلوم. ولكن قبل الشروع في المنوع، فلنوطئ للحديث بتقرير عدد من المقدمات.

تنقسم دراسة اللغة عامة إلى دراسة الألفاظ ودراسة التراكيب. وعادة ما تكون دراسة الألفاظ الجانب السهل منها، فصعوبتها في الغالب تنحصر في الحفظ وأحيانًا النطق، ويكفي غالبًا في إيضاحها ذكر مرادف أو تعريف لها. أما الصعوبة في تعلم اللغات والتعامل بها ففي التراكيب، بداية من التراكيب النحوية المتباينة مثل تلك المعبرة عن الأزمنة المختلفة، أو التراكيب ذوات الدلالة البلاغية من جهة الحصر مثلًا أو الإثبات بعد النفي، أو التعبيرات المخصوصة idioms. ومثل هذه التراكيب قد يُفني المرء عُمُرًا دون أن يحيط بها في لغته بله لغة ثانية. أما الألفاظ فيحصل الآلاف منها وهو بعدُ طفلًا. وكذا الأمر في الترجمة، فعادة ما تكون صعوبة ترجمة نص من لغة إلى لغة في غموض تركيب الجملة، لا غياب كلمة بعينها، بل وتكمن صعوبة اختيار مقابل للكلمات عادة في صعوبة التعبير عن معناها في سياقها بلغة أخرى، لا الكلمة في ذاتها.

وعلى هذا فإن صعوبة تناقل الأفكار تكمن في شرح المفاهيم المعقدة، وليس تعلم الكلمات، فالاصطلاح الجديد في لفظه ودلالته، جديد على المتلقي الجاهل به، في أي لغة. أما تفاوت براعة المدرسين والمؤلفين فمضماره سهولة العبارة المؤدية للمعنى، والكل يستوي في استخدام الاصطلاح. فمثلًا حين يدرس الطالب اسم العظمة الموجودة في منتصف القفص الصدري سيتعلم لأول مرة أن اسمها عظمة القفص بالعربية أو sternum بالإنجليزية. مع فرق تيسر قبوله للكلمة الجديدة بلغته بما لا يكون عادة للفظ الإنجليزي - أو اللاتيني أو الفرنسي - الذي غالبًا ما سيتعلمه بنطق غير دقيق.

هل يُدرّس العلم بالإنجليزية في الواقع؟

ثم إن أكثر من يدرس العلوم بالإنجليزية - مواد كلية الطب على سبيل المثال - في دولة عربية - مثل مصر، يسمع الشرح بالعربية إلا المصطلحات بالإنجليزية - أو اللاتينية أحيانًا!ّ فبدلًا من أن يقول الرئة أو القلب يقول "الـ lung والـ Heart" - كذا بـ"ال" التعريف - ثم يشرع في الشرح بالعربية إلا حين يأتي على أسماء الأعضاء أو الظواهر فيذكرها بالإنجليزية. فيقول مثلًا "الدم - أو الـ blood - يخرج من الـ right ventricle [البطين الأيمن] ويذهب إلى الـ Lung"! كذا شرح بالعربية باصطلاح انجليزي. وحين يحاول أستاذ أن يشرح بالإنجليزية صِرفًا، يواجه الطلبة إحدى مشكلتين، إما أنهم لا يفهمون إلا لِمامًا، فأكثرهم لا يحسن الإنجليزية، ولا يحسن يستمع إليها بفهم لمدة ساعة أو ساعتين، أو الأكثر ألا يفهموا بسبب رداءة إنجليزية المحاضر الذي اختار - لسبب ما - أن يسرد محاضرته بالإنجليزية التي لا يحسنها - مثلما حكى فاينمان في القصة التي قدمنا بها. وأذكر أني حين كنت طالبًا تطوعت للترجمة بين فريق جراحة أجنبي متطوع زار مصر لإجراء جراحات خاصة وبين المرضى، وحضر أحد الأساتذة ليتكلم مع الخبراء الأجانب، فكان يكلم رئيسَ الفريق الجراحي بإنجليزيته، فينظر إليّ الجراح الأجنبي محرجًا لا يفهم شيئًا من الإنجليزية التي خوطب بها، فكنت أتطوع للترجمة بين الإنجليزية الركيكة التي أفهمها إلى الإنجليزية التي سيفهمها الخبير الأجنبي! وقد تكرر موقف مشابه مؤخرًا في لقاء مع خبير أجنبي حضر عرضًا لعدد من الحالات المستعصية، واستعصى عليه فهم ما يقوله "الأخصائي" بالإنجليزية واستعصى على الأخصائي أن يجيب الخبير الأجنبي أو يناقشه رغم أنه كان لديه أسئلة يريد أن يتكلم فيها. لعل البعض قد يجد في هذا المثال نوع مبالغة، لكنه ليس بالنادر.

الغرض الغائب في لغة الدراسة

فإذا أضفنا أن جانبًا مهمًا في دراسة الطبيب يستهدف قدرته على التواصل مع مريض بلده بلسانه هو. يفهم منه كلامه و"يترجمه ويحرره" إلى المصطلح العلمي، ثم يشرح له حاله وخطة العلاج وكل ما ينبغي معرفته عن المرض بلغته هو، تبين أن الطبيب العربي لا مناص له من التدرب على شرح المرض كاملًا بألفاظ واصطلاحات عربية لمريضه العربي. وهو محل شكوى كثير من المرضى أن الطبيب لم يحسن شرح حالة المريض لهم، ولعل جزءًا من هذه المشكلة يكمن في الهوة بين حفظه للمرض وظواهره بلغة واضطراره لشرحه بلغة أخرى. فكثير من الأطباء لا يحسن التعبير عن المرض كاملًا بالإنجليزية في سياق لا يفهم سواها، ولا يحسن التعبير كاملًا بالعربية لمن لا يفهم سواها. وهذا الأمر يتورط فيه كثير من الأطباء إذ لا يسعفه معجمه العربي في بيان تفاصيل الأمراض عادة، وتعامله مع الاصطلاح الأجنبي ليس من باب معرفة اللغة، بل من باب "الوضع الشخصي"، فهذا اللفظ وضع بإزاء هذا المعنى، من دون أن يفهم حتى معناه اللغوي في أحيان كثيرة، وغالبًا ما ينطقه نطقًا يغتلق على الأجنبي، فصار الاصطلاح "الأجنبي" مسخًا.

علاقة الاصطلاح بمعناه: أنموذج من طب الأعصاب

 ومن الطريف أن عددًا لا بأس به من المصطلحات الطبية المستقرة في الحقيقة خطأ في التسمية misnomer. ومنها مثلًا المرض المعروف بالعربية باسم "التصلب المتعدد" أو "التصلب المتناثر". وهي ترجمة حرفية للمصطلحين بالإنجليزية multiple sclerosis والتسمية الأقدم disseminated sclerosis، وأصله تسمية جان-مارتان شاركو - وهو أبو طب الأعصاب في العصر الحديث - بالفرنسية "sclérose en plaques" وتترجم إلى "تصلب لويحي". فمثل هذه التسميات العربية تبين من أي أصل تُرجمت، لكنها جميعًا تشترك في اتباع المعنى الحرفي للكلمات، وهذا المعنى تبين خطؤه، بعد تقدم العلم من بعد عصر شاركو (ت. 1893). فإن شاركو حين وصف المرض اعتمد على تشريح أدمغة المرضى بعد وفاتهم، وحين رأى آثار المرض نقاطًا بعضها أغلظ من باقي نسيج المخ، فظنه تصلبًا sclerosis يصيب الخلايا الدماغية. لكن ثبت بعد ذلك أن هذا المرض من الأمراض "المزيلة للميالين"، وما ظنوه تصلبًا في الأدمغة المشرحة إنما هو أثر تحلل للخلايا الميتة تاركة وراءها تجويفًا صغيرًا، وأحيانًا التجويف يتحول إلى نسيج ليفي، وهو ما رآه شاركو "لويحة" plaque فسماه تصلبًا في شكل لويحة أو تصلبًا لويحيًا[3]. ومثل هذا، وقريب منه التسمية التي فيها نوع تعقيد في تركيبها أو مجاز ما، يُشكل على الطالب العربي ما لا ينبغي أن يكون مشكلًا وهو مجرد اسم المرض، إذ لا يفهم دلالته بالعربية ولا الإنجليزية.

ولذلك جرى التراث الإسلامي على ابتداء كل باب - في أي علم - بشرح المصطلح لغةً واصطلاحًا، وذكر ما فيه من المجاز إن وُجد. وهذا يوضح للطالب معالم ما يدرس قبل وُلُوجه في التفاصيل. وإذا اتُبع هذا في تعلم الطب بالعربية فسيفيد الطالب على مستويي فهم المصطلح واستيعاب المفاهيم، فقد أسلفنا أن المصطلح الجديد جديدٌ على من يجهله مطلقًا، ولكن للاصطلاح العربي فائدة تبز الاصطلاح الأجنبي، إذ يمكن للطالب أن يربط بين المعنى اللغوي والاصطلاحي بسهولة، ولا يحتاج إلى قصة طويلة تقول له مثلًا أن كلمة Diabetes Mellitus - وهو داء السكري - تصف في أصلها اللغوي تدفق البول المعسول! فكلمة Mellitus أصلها اللاتيني Mel أي عسل، وهو جذر كلمة miel بالفرنسية بمعنى عسل. والتسمية تشير إلى طريقة تشخيص المرض قديمًا! فالطالب لا يعرف هذا، ولا يهتم في الغالب بمعرفته، لكنه يضطر إلى حفظ المصطلح اللاتيني ويربطه بالظاهرة المرضية، والسلام.

دواعي التعريب

اللغة وعاء العلم. بها تُتصور المفاهيم، وتُلقن وتُحفظ وتُستدعى. وما مهدنا به آنفًا يوطئ لما في اختيار لغة دراسة العلم من أمور مهمة تنبني عليها، منها:

  1. فهم الاصطلاح بمعنييه اللغوي والاصطلاحي يُجنب الطالب صعوبة كبيرة يلقاها في حفظ المصطلحات التي لا يفهم دلالتها اللفظية، أو قد يفهم منها معنى لغويًا يبعد عن المعنى الاصطلاحي المقصود.
  2. تقرير لغة تواصل الأستاذ مع الطالب شرحًا وسؤالًا وجوابًا، وإن شئت فقل "لغة الحوار العلمي". فإذا تقرر أن الطالب حين يدرس بلغة هجينة، مسخ بين العربية والإنجليزية، تتشكل المفاهيم في ذهنه بهذا النمط اللغوي المضطرب. ولا شك أن لهذا عواقب في سهولة تصور المسائل، ولا سيما في المواد التأسيسية النظرية وما يتبع ذلك من اضطراب فهم ما ينبني عليها من مواد تطبيقية.
  3. زيادة سرعة وجودة تحصيل الطالب للمعلومات، وهو ما أظهرته دراسات كثيرة - عربية وأجنبية، سواء كان في المراحل الأولى من التعليم[4] أو في التعليم الجامعي. ولعل أكثر ما يناسب سياقنا هنا جهود د. زهير أحمد السباعي[5] ومنها التجارب التي أجراها لقياس الفارق في سرعة وجودة استيعاب الطلبة ولا يفاجئنا أن قراءة الطلاب كانت أسرع بمراحل للعربية من الإنجليزية، وما احتفظوا به من المعلومات - مقيسًا باختبارات بعدها بعدة ساعات - كان أكثر بفارق إحصائي معتبر. وإني أجد ذلك بديهيًا بما لا يستدعي معه إيراد تفاصيل التجارب في مقامنا هذا.
  4. تدريب الطالب على واجب من أهم واجبات مهنته المستقبلية - ولتكن الطب - وهو تبليغ المريض أو ذويه ما يُحتاج إليه من فهم المرض وطبيعته وأسبابه على وجه الدقة قدر المستطاع. والممارس لهذا يعلم استعمال كثير من الأطباء - إن لم يكن كلهم - لمصطلحات تقريبية عامة تقصر عن الوصف الدقيق للمرض لتقريب المعلومة للمريض. وليس ذلك لصعوبة الاصطلاح الدقيق على المريض أو ذويه، بل لغيابه عن الطبيب، وهو ما أزعم أنه من أسباب شكوى عدم تفهيم كثير من الأطباء مرضاهم تفاصيل حالتهم الصحية، لغياب لغة التواصل التي تسعف ذلك إلا على وجه العموم. ويدخل في ذلك تواصله مع زملائه في مجال الرعاية الصحية ممن قد تكون دراسته بالعربية مثل فنيي التمريض والأشعات، بدلًا من التواصل الهجين المشابه لتواصل الأستاذ مع طلابه المذكور سابقًا.
  5. ما يترتب على ارتباط اللغة بالنموذج المعرفي الذي نشأت وازدهرت فيه. وهو أمر دقيق كثير ما يُغفل عنه. فالبعض يظن أن العلم التجريبي القادم من أي مكان في الشرق أو الغرب منزه عن التحيزات المعرفية المتلبسة بالسياق "العلمي" الذي أجرى البحث، أو قرر نتائجه أو ما يترتب عليها من لوازم علمية أو معرفية أو فلسفية أو دينية - في بعض الأحيان. ولا يخفى أن العربية قد ازدهرت في كنف الإسلام دينًا وعقيدة وثقافة، وإن شئت قل "النموذج المعرفي أو المنظور المعرفي أو الإبستمولوجي الإسلامي". هذا المنظور الذي لا يغيب عن مفهوم التوحيد حقيقةً مركزية ولا تغيب عنه في فهمه لكل الظواهر التجريبية، ونماذجه التفسيرية. والعكس بالعكس. فموجات الإلحاد الحديثة التي انتحلت ثوب العلم التجريبي، خرجت من رحم منظور معرفي إلحادي - مادي محض - يتجاهل عن عمد ما لوجود خالق من أثر في فهمه - مثلًا - للظواهر الإنسانية إذا درسها من منظور طبي أو بيولوجي أو نفسي أو فلسفي. فإذا تناول ظاهرة مُشكلة مثل الألم مثلًا، درسها من جهة الأعصاب لكن باعتبار أن الإنسان ظاهرة مادية يمكن أن يُستقل بمقوماتها الوجودية المادية المحضة في فهمها. وإذا اضطره البحث العلمي إلى جانب غيبي ملغز في الظاهرة الإنسانية، يضع له أوصافًا توهم - خلافًا للواقع - باحتواء هذا الجانب فهمًا. لمثل هذه الممارسات تجليات لغوية، تتبين بشدة إذا تصدى لترجمتها من يعي دلالة الألفاظ ولوازمها أو دواعي اختيارها الفلسفية وإن كانت في سياق العلم التجريبي. فمنها ما خرج من رحم حتمية مادية إلحادية، أو منظور يلبس الطبيعة ثوب الفاعل المختار، وهنا تُضطر اللغة إلى مضايق من المجاز المستنكر في أصل اللغة العلمية. وتفصيل هذه المسألة يخرج بالمقال عن مقصوده، ويحسن إفراده في مقال آخر.

أوجه الاعتراض

فإذا أتينا إلى ما جمعت من اعتراضات على تعريب تدريس العلوم بالعربية فأجدها تنحصر فيما يلي:

  1. يجب أن يكون لنا مشاركة فعالة علمية فعلًا قبل أن نخطو في اتجاه التعريب.
  2. أكثر المنتج العلمي منشور بالإنجليزية، فكيف سيواكب الطبيب المستجدات اليومية التي لن تستطيع أن تواكبها الترجمة أولًا بأول.

               وسائر الاعتراضات تدندن حولهما بصيغ مختلفة، مثل وجوب أن يكون لنا السبق قبل أن نعرب العلوم، وأن الإنجليزية هي لغة العلم. واستعمال لفظة "العلم" معرفة بـ"ال" وكأنها للعهد الذهني فيه إشكال، إذ المقصود أغلبية النشر، وليس "العلم" مقصورًا على جانبه المنشور فقط، فجانب كبير منه يتعلق بتعليمه والتفكر فيه والتناظر فيه، والمنطلقات المعرفية [الابستمولوجية] المرتبطة بعلاقة الدين والبيئة والثقافة - وغيرها من المؤثرات- باللغة، ومن ثم بصياغة هذا "العلم". فهنا حصر "للعلم" الواسع، في تحيزات لغة معينة لا تسع غيرها المنظور المعرفي للعلم عند غيرها من الثقافات. والظاهر أن أكثر دول العالم تعي ذلك، إذ الطب في فرنسا بالفرنسية وفي إيطاليا بالإيطالية، وفي ألمانيا بالألمانية، وفي الصين بالصينية، وكذا في فيتنام، وفي أكثر تلك الدول قد يكون التدريس التمهيدي بالإنجليزية، لكن إلى حين مرور الطالب بدورة مكثفة في لغة تلك البلاد ليواصل الدراسة بها. بل وفي الكيان الصهيوني يُدرس الطب بالعبرية! هذه اللغة التي اندثرت لقرون، وعادت على أكتاف رجل واحد هو إليعازر بن يهودا، عوّل في جهوده كثيرًا على المعاجم العربية. فمال هذه اللغة التي لا يتحدثها إلا فئة قليلة تُخدم بالمعاجم، وتدرس بها العلوم؟ ولغة يتحدث بها أضعاف مضاعفة من الشعوب يُزعم أن الدراسة بها تخلف عن ركب العلم؟!

وإذا سلمنا بأن الإنجليزية لغة "العلم"، فلم يُدرس الطب بالفرنسية في بلاد المغرب العربي؟ فليس الإنتاج العلمي الطبي بالفرنسية بالقريب ولا المنافس للإنتاج بالإنجليزية، فهل من سبب سوى أثر الاستعمار؟

أما بالنسبة للاعتراض الأول، ففيه قلب للترتيب الصحيح، فإننا إذا قررنا أن التعلم أسهل وأكثر فاعلية باللغة الأم، فذلك أحرى بالارتفاع بمستوى الطالب ثم الطبيب، ففي دراسته بلغته الأم تسريع لهذه العملية، كما يعي ذلك أكثر دول العالم التي تدرس بلغاتها الأم.

أما الاعتراض الثاني، ففيه افتراض غريب جدًا، هو أن دراسة الطب بالعربية تتعارض مع تدريب الطالب والطبيب على قراءة الأبحاث والمراجع الأجنبية. ولهذا فقد أطلت سابقًا في بيان أن التدريس على الحقيقة بالعربية سوى المصطلحات، وأن الصعوبة في التعامل مع اللغة إنما هي في التراكيب، والتراكيب النحوية في الكتب العلمية، وخاصة الطب، تراكيب بسيطة جدًا لا يكاد النص يخرج فيها عن الزمن المضارع، وأفعاله محدودة جدًا. فلا يُطلب من الطالب أو الطبيب على التحقيق إلا الألفة بالمصطلحات، ولا أجد صعوبة في أن يتعلم الطالب بين ما يتعلمه، المصطلح بالعربية والإنجليزية، ويكون من تدريبه وتكليفه التدرب على قراءة المقالات الطبية المناسبة لمستواه، بحيث يألف الاصطلاح الأجنبي بعد أن ألِف المفهوم وراءه - وهو الأصعب. فافتراض أن دراسة العلوم بالعربية تقتضي القطيعة مع أي مرجع أجنبي غريب جدًا. فهل من يدرس العلوم الإنسانية مثل الفلسفة مثلًا لا ينظر في المؤلفات الفلسفية بلغات أخرى، ويقتصر على التلقي من الترجمة؟ لا شك أن أكثر المتخصصين المجدين يجتهد بما يكفي لينظر في النصوص بلغاتها الأصلية وخاصة الإنجليزية والفرنسية، وشتان ما بين صعوبة قراءة نص طبي ونص فلسفي بلغة أخرى، فلغة الطب - سوى المصطلحات - بسيطة مباشرة جدًا، وخاصة إذا سبق استيعاب المفهوم.

وكما أسلفنا أن غرابة الاصطلاح الجديد تستوي بين اللغات، نزيد أنها قد تستوي بين الطالب العربي والإنجليزي. ولحل هذه المشكلة - عند الطالب المتحدث بالإنجليزية - صدر كتاب له شعبية واسعة بعنوان The language of Medicine [لغة الطب] ظهرت منه منذ طبعته الأولى عام 1976 إلى وقت كتابة هذه السطور ثلاث عشرة طبعة أحدثها ظهرت هذا العام 2024. يعالج الكتاب إشكال عدم وضوح المصطلحات للمتحدث بالإنجليزية. ولا أجد غضاضة في تدريس مثل هذا الكتاب ضمن المنهج الدراسي لطالب الطب، فالمادة العلمية فيه مادة لغوية في الأساس مع تفاصيل يسيرة لا تخفى على الطالب.

لذا أقول إن تدريب الطالب على المصطلحات وقراءة المقالات العلمية خلال الدراسة كاف جدًا في إعداد الطالب والطبيب لمواكبة التطورات اليومية في مجاله، ويمكن أن يُستعان في ذلك بتدريسه اللغة الإنجليزية بمنهج مخصص للأطباء، لا يتوسع كثيرًا في الجوانب البلاغية والتراكيب النحوية التي لن يستعملها الطبيب. واللطيف أن ممارسة الطب في بريطانيا صار لها اختبار لغة إنجليزية غير اختبار IELTS الشهير، صُمم خصيصًا للمشتغلين بالمهن الطبية يسمى OET وهو اختصار لكلمة Occupational English Test، أي اختبار اللغة الإنجليزية المهني، وفيه يختبر تعامل المتقدم مع نصوص طبية وحوار طبي وكتابة نص طبي، والنجاح فيه كاف من حيث الشهادة اللغوية لممارسة الطب هناك في بريطانيا! ولا يقارن في صعوبته باختبارات اللغة الأخرى.

أما ما قد يقال من أن العربية لا تسع ما تبلغه هذه العلوم، فذلك دعوى لا تصدر عمن يعرف أن العلوم تدرس بالعبرية - اللغة التي بُعثت بعد موات - في الكيان الصهيوني، ويستسخفها من يعرف سعة الإمكانات الصرفية الاشتقاقية والثراء المعجمي العربي.

أختم بأن رواد التعليم الجامعي العربي في أول القرن كانوا على وعي تام بما نقول، ومن عجيب ما وقفت عليه قرار الجامعة الأهلية المصرية في اجتماع اللجنة المؤسسة لها - برئاسة الأمير فؤاد [الملك فؤاد لاحقًا] بتاريخ 28 أبريل 1908، بأن تكون لغة التعليم "هي اللغة العربية دون سواها لتكون واسطة لنشر المعارف وترقية العلوم بين الناطقين بالضاد، ولكي ترتقي اللغة العربية نفسها بهذه الوسيلة". ويذكر صاحب كتاب "فؤاد الأول: المعلوم والمجهول" أن اللجنة إنما تحفظت فقط بأنه "في حالة الضرورة، ولأجل مسمى فقط، قد تُلقى بعض الدروس بالفرنساوية [كذا] والإنكليزية ريثما يعود الطلبة الذين أرسلتهم الجامعة إلى أوروبا كما أنها خصصت جوائز للطلاب الذين يأخذون مفكرات كاملة عن المحاضرات التي تُلقى بإحدى اللغتين الأجنبيتين ويترجمونها إلى العربية"[6]. يرجع هذا المشهد صدى حركة الترجمة قبلها في الثلث الأول من القرن التاسع عشر في عهد محمد علي باشا، وحركة ترجمة الكتب العربية التي ظُفر بها من طليطلة بعد سقوطها إلى العامية القشتالية ثم إلى اللاتينية! وقبلها حركة الترجمة في عهد المأمون.

ويكتب جرجي زيدان (1861-1914) فيقول: " مر على المدارس الكبرى في سوريا ومصر عشرات من السنين، والتعليم فيها باللغة العربية، فزهت هذه اللغة وأزهرت، وهو عصرها الذهبي في هذه النهضة، ولذلك فنحن نشكو من الكلية الأميركية والكلية اليسوعية في بيروت، ومن المدارس الأميرية المصرية؛ لأنها جعلت التعليم فيها باللغات الأجنبية، وحجة أصحاب هذا التغيير قلة الكتب التعليمية في اللغة العربية، وكثرتها وإتقانها في اللغات الإفرنجية، وهو اعتراض وجيه بالنظر على التعليم بحد ذاته، لكن التعليم يراد به أيضًا شيء آخر لا يقل أهمية عن ذلك، نعني ترقية شئون الأمة، وجمع كلمتها، وإحياء آمالها، وهذا لا يكون إلا بترقية لسانها، وإحياء آدابه بتأليف الكتب العلمية والأدبية … .ولا يتيسر ذلك إلا إذا كان هو قاعدة التدريس في المدارس العالية."[7]

 

[1] ريتشارد پ. فاينمان (1918-1988) من أعلام الفيزياء وميكانيكا الكم في القرن العشرين، شارك شابًا في مشروع مانهاتن لصناعة القنبلة الذرية، وإليه يُنسب "مخطط فاينمان" Feynman Diagram، حصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1965.

[2] فاينمان، ريتشارد. بالطبع أنت تمزح يا سيد فاينمان. ترجمة أحمد شكري مجاهد، ط1(مصر: بوك مانيا، 2021)، ص 228-229.

[3] Dighriri, Ibrahim M. et. al. An Overview og the history, Pathology and Pharmacological Interventions of Multiple Sclerosis. Cureus 15.1 (2023): e333242.

[4] وهو ما أوصت به منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في عدد من دراساتها، انظر مثلًا:

UNESCO (2003). Education in a multilingual world. UNESCO Education Position Paper. Paris: UNESCO.;

UNESCO Bangkok (2005).; Advocacy brief on mother tongue-based teaching and education for girls. Bangkok: UNESCO.; UNESCO (2007). Strong foundations: Early childhood care and education. Paris: Author., UNESCO (2008a). Mother Tongue Matters: Local Language as a Key to Effective Learning. Paris: UNESCO.; UNESCO (2008b). Mother tongue instruction in early childhood education: A selected bibliography. Paris: UNESCO.

وانظر للاستزادة هذا المقال:

https://www.globalpartnership.org/blog/children-learn-better-their-mother-tongue

 

[5] السباعي، زهير. تجربتي في تعليم الطب باللغة العربية. ط2(نادي المنطقة الشرقية الأدبي، 1996). انظر خصوصًا ص. 83.

[6] رزق، يونان لبيب. فؤاد الأول: المعلوم والمجهول، ط1(القاهرة: دار الشروق، 2005)، ص. 22-23.

[7] زيدان، جرجي، تاريخ الآداب العربية، الجزء الرابع، النسخة الإلكترونية على موقع مؤسسة هنداوي، https://www.hindawi.org/books/18683951/4.2/

شارك :

التعليقات (0)

أضف تعليق